فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {الله الذي خلق السماوات} الآية،
تذكير بآلاء الله، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة من جهتين.
و{الله} مبتدأ، و{الذي} خبره. ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق. و{السماوات} هي الأرقعة السبعة والسماء في قوله، {وأنزل من السماء} [البقرة: 22] السحاب.
وقوله: {من الثمرات} يجوز أن تكون {من} للتبعيض، فيكون المراد بعض جني الأشجار، ويسقط ما كان منها سمًا أو مجردًا للمضرات، ويجوز أن تكون {من} لبيان الجنس، كأنه قال: فأخرج به رزقًا لكم من الثمرات، وقال بعض الناس: {من} زائدة-وهذا لا يجوز عند سيبويه لكونها في الواجب ويجوز عند الأخفش.
و{الفلك} جمع فلك- وقد تقدم القول فيه مرارًا- وقوله: {بأمره} مصدر من أمر يأمر، وهذا راجع إلى الكلام القائم بالذات، كقول الله تعالى للبحار والأرض وسائر الأشياء، كن- عند الإيجاد- إنما معناه: كن بحال كذا وعلى وتيرة كذا، وفي هذا يندرج جريان الفلك وغيره.
وفي تسخير الفلك ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح، وأما تسخير الأنهار فتفجرها في كل بلد، وانقيادها للسقي وسائر المنافع. و{دائبين} معناه: متماديين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش عليه: إن هذا الجمل شكى إلي أنك تجيعه وتديبه، أي تديمه في الخدمة والعمل- وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة. وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفع إلى ابن عباس أنه قال: معناه: دائبين في طاعة الله- وهذا قول إن كان يراد به- أن الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله: {سخر} وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر، فهذا جيد، والله أعلم.
وقوله: {وآتاكم} للجنس من البشر، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر، فيقال-بحسب هذا- للجميع أُوتيتم كذا- على جهة التعديد للنعمة- وقيل المعنى: {وآتاكم من كل ما سألتموه} أن لو سألتموه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من الأول.
و{ما} في قوله: {ما سألتموه} يصح أن تكون مصدرية، ويكون الضمير في قوله: {سألتموه} عائدًا على الله تعالى: ويصح أن يكون {ما} بمعنى الذي، ويكون الضمير عائدًا على الذي.
وقرأ الضحاك بن مزاحم {من كلٍّ ما سألتموه} بتنوين {كل} وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام، ورويت عن نافع، المعنى: وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل. ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به. ف {ما} في قوله: {ما سألتموه} مفعول ثان ب {آتاكم} وقال بعض الناس: {ما} نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير الضحاك. وأما القراءة الأولى بإضافة {كل} إلى {ما}- فلابد من تقدير المفعول الثاني جزءًا أو شيئًا ونحو هذا.
وقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك. وقال طلق بن حبيب: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد. ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله: {إن الإنسان} يريد به النوع والجنس المعنى: توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وسخَّر لكم الأنهار}.
أي: ذلَّلها، تجري حيث تريدون، وتركبون فيها حيث تشاؤون.
{وسخر لكم الشمس والقمر} لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما {دائبين} في إِصلاح ما يُصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران.
ومعنى الدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه.
{وسخَّر لكم الليل} لتسكنوا فيه، راحة لأبدانكم، {والنهار} لتنتفعوا بمعاشكم، {وآتاكم من كل ما سألتموه} وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أن المعنى: من كل الذي سألتموه، قاله الحسن، وعكرمة.
والثاني: من كل ما سألتموه، لو سألتوه، قاله الفراء.
والثالث: وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئًا، فأضمر الشيء، كقوله: {وأوتيتْ من كل شيء} [النمل 23] أي، من كل شيء في زمانها شيئًا، قاله الأخفش.
والرابع: من كل ما سألتموه، وما لم تسألوه، لأنكم لم تسألوا شمسًا ولا قمرًا ولا كثيرًا من النِّعم التي ابتدأ كم بها، فاكتُفي بالأول من الثاني، كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل 81]، قاله ابن الأنباري.
والخامس: على قراءة ابن مسعود، وأبي رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وأبان عن عاصم، وأبي حاتم عن يعقوب: {من كلٍّ ما} بالتنوين من غير إِضافة، فالمعنى: آتاكم من كُلٍّ ما لم تسألوه، قاله قتادة، والضحاك.
قوله تعالى: {وإِن تعُدُّوا نِعمة الله} أي: إِنعامه {لا تحصوها} لا تُطيقوا الإِتيان على جميعها بالعَدِّ لكثرتها.
{إِن الإِنسان} قال ابن عباس: يريد أبا جهل.
وقال الزجاج: الإِنسان اسم للجنس يُقصَد به الكافر خاصة.
قوله تعالى: {لظَلوم كَفَّار} الظَّلوم هاهنا: الشاكرُ غيرَ مَن أنعم عليه، والكَفَّار: الجحود لنِعم الله تعالى.
قوله تعالى: {اجعل هذا البلد آمنا} قد سبق تفسيره في سورة [البقرة: 126].
قوله تعالى: {واجنبني وبَنيَّ} أي: جنِّبني وإِياهم، والمعنى: ثبِّتني على اجتناب عبادتها.
{رب إِنهن أضللن كثيرًا من الناس} يعني: الأصنام، وهي لا توصَف بالإِضلال ولا بالفعل، ولكنهم لما ضلّوا بسببها، كانت كأنها أضلَّتهم.
{فمن تبعني} أي: على ديني التوحيد {فإنه مِنّي} أي: فهو على مِلَّتي، {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم، قاله السدي.
والثاني: ومن عصاني فيما دون الشرك، قاله مقاتل بن حيان.
والثالث: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إِلى التوحيد، قاله مقاتل بن سليمان.
وقال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يُعلِمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض}.
أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق.
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء} أي من السّحاب.
{مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات} أي من الشجر ثمرات {رِزْقًا لَّكُمْ}.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} تقدم معناه في البقرة.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ} أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدُّؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية.
وقيل: دائبين في السير امتثالًا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن عباس.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
قوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئًا؛ فحذف؛ عن الأخفش.
وقيل: المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأله شمسًا ولا قمرًا ولا كثيرًا من نعمه التي ابتدأنا بها.
وهذا كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} على ما يأتي.
وقيل: {مِن} زائدة؛ أي آتاكم كلّ ما سألتموه.
وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما {وءاتاكم مِن كُلِّ} بالتنوين {مَا سَأَلْتُمُوهُ} وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقَتَادة؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه؛ كالشمس والقمر وغيرهما.
وقيل: من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} أي نعم الله.
{لاَ تُحْصُوهَا} ولا تطيقوا عدّها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسَّمع والبصر وتقويم الصّور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم لا تحصى وهذه النّعم من الله، فَلِمَ تبدلون نعمة الله بالكفر؟ وهلا استعنتم بها على الطاعة؟ {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس: أراد أبا جهل.
وقيل: جميع الكفار. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج من الثمرات رزقًا لكم}.
اعلم أنه تقدم تفسير هذه الآية في مواضع كثيرة، ونذكر هاهنا بعض فوائد هذه الآية الدالة على وجود الصانع المختار القادر الذي لا يعجزه شيء أراده، فقوله تعالى: {الله الذي خلق السموات والارض}، إنما بدأ خلق السموات والأرض، لأنها أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار وأنزل من السماء ماء يعني من السحاب سمي السحاب سماء لارتفاعه مشتق من السمو، وهو الارتفاع وقيل إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب الى الأرض فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقًا لكم، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر.
وقد يقع على الزرع أيضًا بدليل قوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} وقوله: {من الثمرات} بيان للرزق أي أخرج به رزقًا هو الثمرات {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره} لما ذكر الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر، وأخراج الثمر لأجل الرزق والانتفاع به ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء، لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات، وغيرها من بلد إلى بلد آخر.
فهي من تمام نعمة الله على عباده {وسخر لكم الأنهار} يعني ذللها لكم تجرونها حيث شئتم، ولما كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب أيضًا ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون لأجل هذه الحاجة، فهو من أعظم نعم الله على عباده {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} الدأب العادة المستمرة دائمًا على حالة واحدة ودأب في السير دوام عليه، والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر، يجريان دائمًا فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها.
قال ابن عباس: دؤبها في طاعة الله.
وقال بعضهم: معناه يدأبان في طاعة الله أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير الله، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم {وسخر لكم الليل والنهار} يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان، والزيادة وذلك من إنعام الله على عباده وتسخيره لهم {وآتاكم من كل ما سألتموه} لما ذكر الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر.
والمعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه شيئًا فحذف شيئًا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض، وقيل: هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} يعني أن نعم الله كثيرة على عباده، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها {إن الإنسان} قال ابن عباس: يريد أبا جهل، وقال الزجاج: هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر {لظلوم كفار} يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه، وقيل: الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم الله عليه.
وقيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال: الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولًا إبداعه وإنشاء السموات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد، والله مرفوع على الابتداء، والذي خبره.